طفولتي المبكّرة قضيتها في "مدارس الشويفات" التي تعيد برمجة هويّتك لتكون "انترناشونال". فتتعلم اللغة الإنجليزيّة وثقافتها ويعملون على مسح كل ما يعيق تحقيق ذلك. ما زلت أتذكر توبيخ المعلمة لي عندما تحدثت بالعربيّة مع زميل عربي لي في حديث جانبي.
وبينما كانت المدرسة تلعب دورًا مهمًّا في إتقاني للّغة الإنجليزيّة. إلّا أنّي كنت أعيش صراعًا آخرًا في المنزل. يسألني أبي سؤالًا بالعربية فأجيبه بالإنجليزيّة لأنها أسهل. وتطلب أمّي أن أنوالها "الطاسّة" فيقول أبي "اسمها ملّة" وهذه أسماء مختلفة لنفس الوعاء. ولكن اختلاف المناطق التي تربوا فيها أهلي حتّم علي أن أعيش صراع آخر وهو صراع اللهجات.
في تلك الفترة بدأ حديث المجتمع وامتعاضهم عن غضبهم من تعلّم الناس وأبنائهم اللغة الإنجليزيّة ونسيانهم للغتهم الأم. وكانت الأسباب تتنوع بين المدارس ذو الأجندات الغربيّة. والتلفاز وما يحمله من سموم. اليوم ما زال هذا الامتعاض قائم ولكن الملامين يختلفون.
وقتها تأثرت بما قيل حولي, وشعرت أنّي أحد ضحايا هذه المؤامرة الأمريكيّة التي تريد أن تجعلنا جميعًا ننسى لغتنا وهويّتنا. فذهبت مرّة إلى الأخصائيّة الاجتماعيّة بحجمي الضئيل وصوتي الحاد قائلًا "لماذا تريدون أن تجعلونا ننسى لغتنا؟" سألتها بلهجتي الأمريكيّة الركيكة. كانت هذه الأخصّائيّة والتي لأ أتذكر اسمها لأسباب ذكرتها في نشرة الأسبوع السابق من أصول مكسيكيّة بجنسيّة أمريكيّة. فكانت لغتها الأم هي الإسبانيّة ولكنها تتحدث الإنجليزيّة. فنزلت بجسدها إلى مستواي. ولم يكن الأمر سهلًا عليها. نظرت في عيني وقالت بكل هدوء. "كل عدّة أسابيع أتصل بوالدتي لأتحدث معها بالإسبانيّة. ولا أفعل ذلك إلا معها. ولكنّي لم أنسى اللغة حتى الآن. أتعلم لماذا؟ لأنّي أحب لغتي!"
هنا تغيّر كل شيء. قناعاتي, نظرتي, وهويّتي. علاقتي باللغة العربيّة تغيّرت في تلك اللحظة بالذات. كان درس ذلك اليوم والذي أخذته معي لبقيّة حياتي: هويّتك الثابتة هي ما تحب. وما تريد أن يبقى.
لم يتغيّر الحال في يوم وليلة. احتجت لبضع سنوات قبل أن أنتقل من القراءة والكتابة والحديث بالإنجليزيّة إلى العربيّة. ولكن ها أنا اليوم. تجدني أقحم العربيّة في كل شيء. حتى أنّي أحاول أن لا أكتب أي كلمة إنجليزيّة ضمن محتواي على مواقع التواصل. وليس الأمر سهلًا.